الخميس، 14 يناير 2010

اقتفاء لأثر جبران - الجزء الثالث

لم يكن الوصول إلى مدرسة كوينزي سهلا فقد بدأت في الشك في جهاز الإرشاد GPS الذي كنت أعتمد عليه إلى أن اكتشفت أن العديد من الشوارع هناك أحادية الإتجاه ، مما فسر لماذا كان يطلب مني الجهاز الدوران حول نواصي بعض الشوارع. ومما زاد في شكي هو أنني كنت في قلب الحي الصيني للمدينة "تشاينا تاون" “China Town” ، ناهيك عن الشبكة الكبيرة للطرق السريعة التي تحيط بالمنطقة من كل جانب.

على طرف الحي وقبل أن يردني الحائط الإسمنتي للخط السريع وجهني جهاز الإرشاد للدوران يمينا على شارع ضيق باسم “Marginal Road” والذي يمكن ترجمته إلى "الشارع الهامشي"! وفي أول تقاطع أدركت أن الشارع الموازي له هو شارع تايلور Tyler Street الذي أقصده. لقد أزيلت المباني المواجهة لشارع تايلور الذي تقع عليه المدرسة ولكن الحظ كان حليفي ببقاء المعالم الأهم لمدرسة كوينزي ومنزل جبران وحتى متجر البقالة التي كان يديره أخوه بطرس.

تعرفت على مبنى المدرسة فور وقوع ناظري عليه فقد كان مطابقا للصور القديمة لإبتدائية كوينزي. أخذت نفسا عميقا وأنا أخطو على العتبات التي أخذتني إلى المدخل فقد خطى جبران حيث أمشي. لم تتغير الأرضية ،، ولم تنزع الجدران ،، ولم تستبدل الأسقف ،، فقد حافظ كل وريث لذلك المبنى على الأحشاء التي أعطت المبنى روحه. حتى ألواح الكتابة السوداء (لوح الطبشور/الطباشير) تم الإبقاء عليها وترميم البعض المتآكل منها. لم أترك حجرة واحدة إلا ودخلتها فقد كنت أرغب في أكون في حضرة جبران حتى وإن كنت سأشاركه في المكان دون الزمان. ولكني ارتحت حين دخلت حجرة ناظر المدرسة فلا أعتقد أن أي طالب يستطيع تفاديها حتى وإن كان ملاكا.

رئيس الجمعية الخيرية الصينية التي تتخذ من المبنى مقرا لها "جلبارت هو" كان مضيافا فرحب بي وانشرحت أساريره وأنا أحكي له عن هذا المشروع الذي أقتفي من خلاله أثار جبران. في الجولة الطويلة التي وفرها لي وفي إحدى الغرف كدت أن أُصبح ضيفا ثقيلا عندما ساورتني نفسي لأن أطلب منه قطعة من لوح الكتابة الأسود المتكسر. فقد صادف وجود بعض أخصائي الترميم يعملون في تلك الحجرة على الجدار. ولكني عدلت عن ذلك وأنا أشاهد مدى الدقة التي كانوا يعملون بها وكأن الجدار جزء من آثار تاريخية لا يفترض أن يمسها غير المختصين.

غادرت المبنى بعد عدة ساعات، مضت في غمضة عين فهي العادة أن الوقت يسْبِقُكَ إن كانت السعادة قد لحقت بك. بالرغم من أني كنت فرحا بوجودي على شارع تايلور إلا أني تمنيت لو أن مبنى Denison House كان موجودا ولكنه مع الأسف قد سوي بالأرض وانتصبت مكانه مدرسة جديدة. لعل شعور الإحباط مناسب، فقد كانت السنين الثلاث التي قضاها في بوسطن بين عام 1895 و 1898 صعبة على جبران.


الجمعية الخيرية الصينية

لي وقفة على هامش رحلتي التي كنت أتتبع من خلالها أثر جبران في الولايات المتحدة. فكما رحبت أمريكا بجبران خليل جبران حينها عندما أتى طفلا عربيا ، ترحب هي اليوم بغيره من الأطفال والرجال والنساء من جميع العرقيات والجنسيات ومن ضمنهم السيد/ "جيلبرت هو" الذي أتى إلى أمريكا فتىً يافعا ليصبح رئيس الجمعية الخيرية الصينية التي ورثت المبنى الذي كان حتى عام 1976 مدرسة كوينزي الابتدائية للبنين والتي كانت يوما المدرسة الإبتدائية لجبران.

وكما ذكرت في الجزء السابق، كان " جيلبرت" كريما في ترحيبه بي وفي تخصيص جزء كبير من وقته كي يشرح دوره وفلسفته كراعي للمبنى مؤكدا على حرصه البالغ للإبقاء على كل الآثار التاريخية للمبنى من طوب وخشب وحجر والتي تفترش الممرات والغرف للمبنى الذي احتضن طلبة العلم على مدى قرن ونصف من الزمان. لقد دهشت بمقدار العناية التي أولاها للحفاظ على هذا الإرث، وما كنت لألومه لو قام في معرض تجديد وصيانة المبنى بالتخلص من ألواح الكتابة السوداء (ألواح الطبشور/ الطباشير) وما كنت لأستغرب لو أنه استبدل الألواح الخشبية للجدران والأروقة بألواح جديدة.

يعتقد السيد " جيلبرت" أن مهمته تتمحور حول مساعدة الأجيال القادمة لبني جلدته على الإبقاء على ثقافتهم الصينية. فهو كصيني أمريكي يدرك أن هذه الهوية وهذا المخزون المعرفي والثقافي هو نعمة له ولكنها في نفس الوقت مسؤولية تثقل كاهله. أكد لي أن الفرد الأمريكي بغض النظر عن عرقيته لا يُفْتَرض أن ينسى أو أن يتناسى تاريخه المرتبط بثقافة أجداده وإنما أن يحافظ على كل ما يثري حياته في وطنه الأمريكي وأن يشارك بقية المجتمع بما يملكه من آراء ومعارف جديدة أو مختلفة.

ذكرني " جيلبرت" بأن حي ساوث إند South End لم يكن دائما رديفا لـ "تشاينا تاون" “China Town” بل كان رديفا للتنوع العرقي للمهاجرين الذين قدموا من أقصاع متفرقة للعالم سواء كان من أوروبا أو الشرق الأوسط أو الشرق الأقصى. فكانت مدرسة كوينزي الإبتدائية التي شيدت في عام 1847 تحتضن الطلبة من جميع تلك العرقيات؛ فكما احتضنت جبران في نهاية القرن التاسع عشر احتضنت المدرسة ذاتها وفي نفس المبنى – 90 شارع تايلور في بوسطن – زوجة "جيلبيرت" الصينية الأصل في ستينيات القرن الماضي.

لم تحيد مهمة المبنى عنما أنشِئَت من أجله، فمازال هذا البنيان معبرا لتوسيع آفاق الطلبة ولكن المفارقة أنه كان يودع في عقول طلبته العلوم والثقافة "الأمريكية" وأصبح اليوم يضخ في العقول الأمريكية فيضا من الثقافة الصينية. فكل حجرة (أو فصل) يجري منها علم من العلوم لتصب جميعا في نهر الثقافة الصينية-الأمريكية والتي تصبح فيما بعد – بشكل من الأشكال – جزءا من الثقافة الأمريكية الأعم. فهناك اللغة والموسيقى والطبخ وفنون القتال الصينية التقليدية، فلا تكاد تخلو مدنية متوسطة أو كبرى من مراكز تدريب لفنون القتال الصينية، كما يبقى الأكل الصيني خيارا أساسيا على قائمة خيارات الأكل خارج المنزل.

تلك قصة أمريكا؛ احتضنت جبران فعاد بالفائدة على أمريكا وعلى العالم العربي واحتضنت "جيلبرت" الذي يبقي على الثقافة الصينية في الضمير الأمريكي ونبقى مدينين للاثنين ولمنظومة كبيرة على ما قدموه ويقدموه لهذا المجتمع.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق