الأربعاء، 10 فبراير 2010

اقتفاء لأثر جبران - الجزء الرابع

رغم أن خليل جبران كان يتذكر سنيه الأولى في بوسطن بشيئ من الرمادية إلا أن تلك السنين الثلاث ما بين 1895 و 1898 وضعته على الطريق الصحيح الذي أوصله إلى شهرة عالمية. لقد كان جبران منذ أول أيامه في عالمه الجديد رحالا يجوب الحي "ساوث إند" South End مستكشفا بحواس فرحة لفتى في سن الـ 12 عاما كل جديد من حوله؛ لونا وصوتا وطعما ورائحة وملمسا. فقد غدى الحي وكأنه ميناءا ترسو فيه العديد من سفن الهجرة التي أبحرت بعرقيات

وجنسيات ولغات وأديان متباينة إلى أمريكا. فالمسرح الإيرلندي يواجهه مسرح الأوبرا وتلاصقه دور الألعاب وغيرها من خيارات الترفيه من معارض الشمع و"صدق أو لا تصدق" إلخ، مما عاف عليه الدهر من مظاهر وعادات لم يعد لها من الوجود إلا ذكرى أو صورة مصفرة كانت يوما "بالأبيض والأسود".

بدأ جبران بحضور دينيزين هاوس Denison House الذي كان حينها مركزا يقابل مدرسة كونزي تُدرِّس فيه طالبات وخريجات جامعيات اللغة والفنون والمهارات العملية لأبناء المهاجرين الجدد. وقد كان يموّل هذا المركز المقتدرون من أهل بوسطن المتركزون في الحي الفاره "باك باي" Back Bay المقابل لحي جبران. ورغم الهوة الطبقية بين الفقراء والأغنياء إلا أن العلاقة بين الإثنين كانت يومية. فقد كان عدد كبير من سكان حي "ساوث إند" South End يعملون لدى أغنياء "باك باي" Back Bay. وقد شهدت تلك الحقبة الزمنية حركة إجتماعية قوية قادها الأثرياء من أهل البلد لمساعدة جيرانهم المغلوب على أمرهم في "ساوث إند" South End في حملة واسعة ومنظمة للتكافل الإجتماعي.

في دينيزين هاوس Denison House بدأت النجوم والكواكب تتشكل لتصطف خلف جبران. أدركت فلورانس بيرس Florence Pierce المعلمة في دينيزين هاوس Denison House الإمكانات الفنية الكامنة في رسوم جبران، فأقدمت على إخبار الناشطة الإجتماعية "جيسي فريمونت بييل" Jessie Fremont Beale الأخصائية في منظمة مساعدة الأطفال Children’s Aid Society. لقد كانت موهبة جبران الفنية تجهر في وجه كل ذي بصيرة. كان قد بلغ جبران حينها سنه الـ 13 عندما أرسلت السيدة "بييل" Ms. Beale خطابا إلى أحد الشخصيات الأدبية والفنية المؤثرة في بوسطن "فريد هولاند داي" Fred Holland Day تطلب منه مقابلة جبران ليتعرف على الإمكانات الفنية الكامنه في هذا الفتى "السوري". لقد كان يعرّف معظم العرب القادمين إلى أمريكا بلقب "سوري" حتى وإن تحدروا من غيرها في العالم العربي. وبالفعل قابله "داي" بعد أسبوعين من إرسالها لذلك الخطاب المؤرخ: 25 / 11 / 1896 وأخذه تحت جناحه.

كان ستوديو السيد "داي" Day في حي "باك باي" Back Bay وكان على جبران أن يعبر قضبان السكة الحديد الفاصلة بين الحيين لكي يترك خلفه "ساوث إند" South End للوصول إلى مرشده ومعلمه. لقد بحثت عن تلك القضبان كي أستشف الأثر الذي تركه جبران متمنيا أن تكون ذات القضبان الحديدية هناك، ولكن العصر تغير ولم يعد للقضبان وجود. لقد استبدل القطار بالسيارة وتحولت السكة الحديدية إلى شبكة من الطرق السريعة. ومع ذلك وبعد البحث والسؤال اكتشفت المكان (أو على الأقل جزءا من المكان) الذي كانت تلك القضبان تفترشه. تخيلت حينها أن جبران كان يعبر القضبان بسهولة فقد كانت ممتدة على الأرض ولكن القضبان ذاتها كانت تفصل بين عالمين بين أثرياء "باك باي" Back Bay والفقراء الذين يقطنون "ساوث إند" South End. لقد تمكن جبران من التغلب على قضبان السجن الطبقي بفضل كل من آمن بموهبته ،، "بيرس" و "بييل" و "داي" وغيرهم ،، وكل من فتح له الأبواب الموصده حتى وإن لم يطلب جبران من أحد أي مساعدة على ذلك.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق